التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عبقرية اللغة العربية.

عصام القيسي

للكاتب: عصام القيسي.

سنطلق عليها اسم اللغة، نزولاً عند هذا الخطأ الشائع الذي يسمي اللسان لغة، على الرغم من مخالفته للتسمية القرآنية، وللسان العربي الفصيح الذي يستعمل اسم "اللسان" لا اللغة. وعلى الرغم -كذلك -من اتفاق الوصف القرآني والفصيح مع علم اللسانيات الحديث، الذي يميز بين مصطلحات ثلاثة هي: اللغة، واللسان، والكلام. فيجعل اللغة اسماً لهذه الملَكة التي تميز الإنسان عن غيره من الحيوانات، ويجعل اللسان اسماً للنظام اللغوي الذي يميز لغة عن أخرى، ويجعل الكلام اسماً للأسلوب الفردي الذي يميز شخصاً عن غيره. فاللغة – بهذا – هي الظاهرة الإنسانية، واللسان هو الظاهرة القومية، والكلام هو الظاهرة الفردية. لكننا سنتغاضى مؤقتاً عن هذه الحقائق العلمية ونجري مجرى العادة والمألوف، ومألوف حياتنا نحن العرب هو الخطأ والقصور و"العنطزة" الفارغة، احتكاماً للقاعدة العربية التي تقول: الخطأ الذي تعرفه خير من الصواب الذي لا تعرفه!


مثل شجرة الغريب، صمدت اللغة العربية في وجه أعتى عوامل الانهيار والزوال، واستمرت قائمة على سوقها لأكثر من سبعة عشر قرناً. وما زالت – على الرغم من شيخوختها – تبشر بالمضي إلى نهاية العمر. وما كان للغة أن تصمد هذا الصمود في وجه المحاولات المقصودة وغير المقصودة للإطاحة بها لولا عناصر القوة الذاتية لهذه اللغة. تلك العناصر التي جعلت منها واحدة من أعظم اللغات في العالم. بل هي -عند التحقيق – أعظم اللغات على الإطلاق! وهذا الحكم الأخير يستفز كثيراً من الأصدقاء حين أصارحهم به. ظناً منهم أنه ثمرة تعلق عاطفي بلغتي القومية. مع أن أصدقائي جميعاً يعرفون إلى أي مدى بلغت مجاهرتي بالعقوق للعرب وثقافتهم. وما نقدي الدائم للعقل العربي إلا مظهر من مظاهر ذلك العقوق! ومن ثم فإن حكمي على اللغة العربية لا يدخل في باب العاطفة بقدر ما يدخل في باب العلم. وهذه هي حيثيات الحكم:

قسم العلماء لغات العالم المعروفة بحسب تطورها وارتقائها على ثلاثة أقسام هي:
  1. اللغات العازلة غير المتصرفة 
  2. اللغات اللاصقة 
  3. اللغات المتصرفة 

التحليلية:

وأهم ما يميز اللغات العازلة أنها مؤلفة من أصول جامدة لا تقبل التغيير في بنية الكلمة مطلقاً، ويقوم الاشتقاق فيها بإلحاق أدوات لا معنى لها في نفسها إلى آخر تلك الأصول. هذا على مستوى الكلمة، أما على مستوى الجملة فتمتاز بخلوها من الروابط بين أجزاء الجملة. وهذان يعدان مظهران من مظاهر الضعف والقصور يجعل اللغة في أدنى سلم التطور.

أما اللغات اللاصقة فهي أكثر تطوراً من سابقتها، إذ يمكن للكلمة أن تغير من شكلها – ومعناها بالتبعية – عن طريق إضافة حروف في أولها أو آخرها، ومعظم هذه الحروف اللاصقة كانت في الأصل كلمات ذات معنى مستقل، قبل أن تفقد معانيها فتستخدم لمساعدة غيرها في إنتاج معناه. وهذا مظهر يجعلها في مستوى أعلى من اللغات العازلة، وأدنى من اللغات التحليلية (الاشتقاقية).

وهذه الأخيرة تمتاز – على مستوى اللفظة -بأن معاني كلماتها تتغير بتغير بنيتها الداخلية، وتمتاز – على مستوى التركيب – بأن أجزاء الجملة تربطها روابط لها معان قائمة بذاتها، تدل هذه الروابط (كالواو مثلا) على مختلف العلاقات. مما يجعلها أرقى الأنواع الثلاثة.

وعلماء اللغة أنفسهم حين يوزعون اللغات المعروفة على هذه الأنواع يجعلون اللغات السامية من اللغات الاشتقاقية. بل إنها تكاد تكون الممثل الأبرز للغات الاشتقاقية. مما يعني أن شجرة اللغات السامية عندهم – وبدون تصريح – هي أرقى اللغات في العالم. فإذا ما اضطر علماء اللغة هؤلاء إلى المقارنة بين لغات الشجرة السامية نفسها، قالوا بالفم المليان إن أرقى فروع الشجرة السامية هي العربية الفصحى. وهذا منهم اعتراف ضمني بأنها أرقى لغات العالم على الإطلاق!

إن معيار رقي أي لغة هو معيار الكفاءة، كفاءة اللغة، وكفاءة اللغة لها مظهران أساسيان هما: المرونة، والثراء. وهما مظهران متحققان في الفصحى أكثر من غيرها من اللغات القديمة والحديثة. فمن حيث الثراء يكفي أن تعرف أن بها أكثر من ستة عشر ألف جذر لغوي، بما يفوق اللغة السنسكريتية – مثلاً – بأربعة أضعاف. واللغة السنسكريتية هي أقدم اللغات المعروفة في الشرق. ومنها تولدت اللغات الآرية التي انفصلت عنها اللاتينية الأوروبية. أما من حيث المرونة فهي تزخر بمجموعة آليات تجعلها في غاية المرونة، مثل آلية الاشتقاق، وآلية النحت، وآلية التقديم والتأخير، وبناء الفعل للمجهول، وغير ذلك. وعلى الرغم من وجود هذه الآليات في لغات أخرى معاصرة، إلا أن اجتماعها ودرجتها في العربية الفصحى لا نظير له، كما يقول أهل الاختصاص.

ليس هذا هو المظهر الوحيد لعبقرية العربية بالطبع، فهناك مظاهر عديدة منها ما يتعلق بالجهاز الصوتي للغة العربية، الذي يغطي كافة الأصوات الأساسية للصوت الإنساني، بما فيها ذلك الصوت الشهير الذي نسبت إليه، أعني "الضاد". ومنها ما يتعلق بدلالة الحروف نفسها على المعاني بحسب موقعها. ومنها ما يتعلق بالدقة التحليلية العالية بين مفرداتها، بحيث يمتنع فيها ترادف كلمتين، إلا عند من يتوهم ذلك خطأ. ومن مظاهر هذه الدقة التحليلية أن تجد 24 اسماً للـ 24 ساعة في اليوم والليلة! وكلها مظاهر دالة على أن هذه اللغة قد أخذت وقتاً طويلاً في التطور والرقي أكثر من غيرها من اللغات. وهو ما يجعلنا نقول إن العربية هي أقدم لغات العالم كلها، لأنها أكملت تطورها في وقت مبكر جداً.

لكن على الرغم من ذلك كله فإن العربية اليوم تعاني أزمة كبيرة لها أكثر من مظهر وأكثر من سبب. سنجعل منها حديث المنشور القادم.

تحميل المقالة بصيغة PDF

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مؤلفات عبدالرزاق الجبران ( PDF )

عبد الرازق الجبران مؤسس مجلة الوعي المعاصر في مهجره دمشق بعد ظهور كتابه الأهم جمهورية النبي/عودة وجودية ظهرت معه خطى تمردية مفاجئة، وتمرده التام على الكهنوت الديني والنسق التنويري البارد، باتجاه مغاير تماما لكل وجهات الإصلاح الديني باعتماده الحل الوجودي للدين في منهجه المعرفي..وبقناعة ان التزوير لاح كل التراث بيد الكاهن....تغير معه الفقه إلى احكام مغايرة تماما لما هو مألوف.

خرافة عذاب القبر

بقلم : ياسين ديناربوس كنت فيما مضى كلما أطلقت العنان لخيالي متصورا الاحداث المسرحية لخرافة عذاب القبر التي يسردها شيوخ الكهنوت، أتوقف عند بعض الاسئلة: لماذا يطلقون على ذلك الثعبان الخرافي وصف الثعبان الاقرع؟  هل هناك ثعبان أقرع وآخر أجلع وثالث كثيف الشعر؟  إن كل الثعابين لا توجد شعرة واحدة على رؤوسها!

مؤلفات الدكتور علي الوردي مجمعة برابط واحد

علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعرف باعتداله وموضوعيته. حصل على الماجستير عام 1948م، من جامعة تكساس الأمريكية. حصل على الدكتوراه عام 1950م، من جامعة تكساس الأمريكية. قال له رئيس جامعة تكساس عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع). أكثر من 150 بحثا مودعة في مكتبة قسم علم الاجتماع في كلية الاداب جامعة بغداد. كان الوردي متأثرا بمنهج ابن خلدون في علم الأجتماع. فقد تسببت موضوعيته في البحث بمشاكل كبيرة له، لأنه لم يتخذ المنهج الماركسي ولم يتبع الأيدلوجيات (الأفكار) القومية فقد أثار هذا حنق متبعي الايدلوجيات فقد اتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه" شخصية الفرد العراقي" وهذا حسب منطلقاتهم العقائدية إن الشخصية العربية متشابهة في كل البلدان العربية. وكذلك إنتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراسته.